واقعية الإسلام في التعامل مع الإنسان كله :
والخلاصة التي أود أن أذكرها هنا تتمثل في هذه المباديء أو الحقائق :
إن الإسلام دين واقعي ، فهو يتعامل مع الإنسان كله : جسمه وروحه ، وعقله ووجدانه ، ويطالبه أن يغذيها جميعا ، بما يشبع حاجتها ، في حدود الاعتدال ، الذي هو صفة (( عباد الرحمن )) : ( وَ اُلَذِينَ إِذَا أَنفَقواُ لَمُ يقُترواُ وَ كاَنَ بَيُنَ ذَلِكَ قَوَاَمَا (67)[5] ، وليس هذا خلقهم في أمر المال فقط ، بل هو خلق أساسي عام في كل الأمور ، هو المنهج الوَسَط للأمة الوسَطَ .
وإذا كانت الرياضة تغذى الجسم ، والعبادة تغذى الروح ، و العلم يغذى العقل ، فإن الفن يغذى الوجدان .
ونريد بالفن : النوع الراقي الذي يسمو بالإنسان ، لا الذي يهبط به .
* * *
القرآن ينبه على عنصري المنفعة والجمال في الكون :
وإذا كانت روح الفن هي الإحساس بالجمال وتذوقه ، فهذا ما عني القرآن بالتنبيه وتأكيده في أكثر من موضع .
فهو يلفت النظر بقوة إلي عنصر (( للحسن )) أو (( الجمال )) الذي أودعه الله في كل ما خلق ، إلي جوار عنصر (( النفع )) أو (( الفائدة ))فيها .
كما أنه شرع للإنسان الاستمتاع بالجمال أو «الزينة » مع المنفعة أيضاً .
يقول الله تعالي في معرض الامتنان بالأنعام : (وَ الأَنُعَمَ خَلَقَها لَكمُ فِيهَا دِفُ ء“ وَمَنَفِع وَ مِنُهَا تَأُكلونَ (5)[6] ، و في هذا تنبيه على جانب المنفعة والفائدة ، ثم يقول : ( وَ لَكمُ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ ترِيحونَ وَ حِينَ تَسُرَحونَ (6) [7] ، فهذا تنبيه على جانب الجمالي ، حيث يلفتنا إلى هذه اللَوحة الربانية الرائعة، التي لم ترسمها يد فنان مخلوق ، بل رسمتها يد الخالق سبحانه .
و في نفس السياق يقول سبحانه : ( وَ الُخَيُلَ وَ الُبِغَالَ وَ الُحَمِيرَ لِتَرُ كَبوها وَزِينَة ) ج [8] فالركوب يحقق منفعة مادية مؤكدة ، أما الزينة فهي متعة جمالية فنية ، بها يتحقق الكامل للوفاء بحاجات الإنسان ، كل الإنسان .
و في هذا السياق من نفس السورة امتن الله تعالي بتسخير البحر فقال : ( وَ هوَ الَذِي سَخَرَ الُبَحُرَ لِتَأُكلواُ مِنُه لَحُمَاَ طَرِيَاَ وَ تَسُتَخُرِجواُ مِنُه حِلُيَةَ تَلُبَسونَهَا )[9] ، فلم يقصر فائدة البحر على العنصر المادي المتمثل في اللحم الطري الذي يؤكل ، فينتفع به الجسم ، بل ضم إليه الحلية التي تلبس للزينة ، فتستمتع بها العين والنفس .
وهذا التوجيه القرآني تكرر في أكثر من مجال ، ومن ذلك : مجال النبات والزرع والنخيل والأعناب والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه ، يقول تعالى في موضع من سورة الأنعام : ( كلواُ مِن ثَمَرِهِ إذا أَثُمَرَ وَ ءَ تواُ حَقَه, يَوُمَ حَصَادِهِ وَ َلا تسُرِ فواُ ج )[10]
و في موضع آخر من نفس السورة يقول بعد ذكر الزرع و جنات النخيل والعنب ( انظرواُ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثُمَرَ وَيَنُعِهِ ج إِنَ فِي ذَلِكمُ َلايَتِ لِقَوُمَ يؤُمِنونَ (99) )[11]
فكما أن الجسم في حاجة إلي الاستمتاع بالنظر إلي ثمره إذا أثمر ينعه . و بهذا يرتفع الإنسان أن يكون همه الأول أو الأوحد هو هم البطن !
و مثل ذلك قوله تعالي : ( يَبَنِي ءَ آدَمَ خذواُ زِينَتَكمُ عِندَ كلِ مَسُجِدِ وَ كلواُ وََلا تسُرِفواُ ج إِنَه, َلا يحِب الُمسُرِفِينَ (31) قلُ مَنُ حَرَمَ زِينَةَ اللَهِ الَتِي أَخُرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطَيِبَاتِ مِنَ الرِزُقِ ج)[12] ؟ .
فأخذ الزينة لجاجة الوجدان ، والأكل و الشرب لحاجة الجثمان ، و كلا هما مطلوب .
و كذلك نجد الاستفهام الإنكاري في الآية الثانية ينصب علي أمرين : تحريم (الطَيِباَتِ مِنَ الرِزُقِ ج) و ( زِينَةَ اللهِ ) ، تجسد عنصر الجمال الذي هيأه الله لعباده ، بجوار عنصر المنفعة الذي يتمثل في ( الطَيِبَاتِ ِمنَ الرِزُقِ ج ) .. و تأمل هذه الإضافة كلمة « زينة » - إلي لفظ الجلالة : ( زِينَةَ اللَهِ ) ففيها تشريف لهذه الزينة و تنويه بها .
و في هذا السياق جاء قبل هاتين الآيتين قوله تعالي في شأن اللباس : ( يَبَنِي ءَ آدَمَ قَدُ أَنزَلُنَا عَلَيُكمُ لِبَاسَاَ يوَارِي سَوُءَتِكمُ وَريشَاَ ج وَ لِبَاس‘ التَقُوَى ذَلِكَ خَيُر“ ج )[13] ، فقد جعلت الآية اللباس – الذي امتن الله تعالي بإنزاله – أنواعاً ، و إن شئت قلت : جعلت له مقاصد و مهمات: مقصد «الستر» المعبر عنه بقوله : ( يوَارِي سَوُءَتِكمُ ) ، و مقصد «التجمل والزينة » المعبر عنه بقوله : (وَرِيشَاَ ( 26 ) ) و مقصد «الوقاية» من الحر والبرد ، المعبر عنه بقوله : (وَلِبَاس التَقُوَى ) .
* * *
المؤمن عميق الإحساس بالجمال في الكون و الحياة والإنسان :
إن المتجول في رياض القرآن يري بوضوح : أنه يريد أن يغرس في عقل كل مؤمن و قلبه الشعور بالجمال المبثوث في أجزاء الكون من فوقه و من تحته و من حوله : في السماء ، و الأرض ، و النبات ، و الحيوان ، والإنسان .
في جمال السماء يقرأ قوله تعالي : ( أَفَلَمُ يَنظرواُ إِلَى السَمَاءِ فَوُقَهمُ كَيُفَ بَنَيُنَهَا وَ مَا لَهَا مِن فروِجِ (6) )[14].
(وَلَقَدُ جَعَلُنَا فِي السَمَاءِ بروجَاَ وَزَيَنَهَا لِلنَاظِرِينَ (16) )[15].
وفي جمال الأرض و نباتها يقرأ : ( وَالُأَرُضَ مَدَدُنَهَا وَأَلُقَيُنَا فِيهَا رَوَسِيَ وَأَنبَتُنَا فِيهَا مِن كلِ زَوُجِ بَهِيِجِ (7) )[16].
(وَأَنزَلَ لَكم مِنَ السَمَاءِ مَاءَ فَأَنبَتُنَا بِه حَدَائِقَ ذَاتَ بَهُجَةِ )[17] .
و في جمال الحيوان يقرأ ما ذكر ناه قبل عن الأنعام : ( وَ لَكمُ فِيهَا جَمَال حِينَ ترِيحونَ وَ حِينَ تَسرَحونَ (6) ) [18] .
و في جمال الإنسان يقرأ: (وَ صَوَرَكمُ فَأَحُسَنَ صوَرَكمُ )[19]، (الَذِي خَلَقَكَ فَسَوَك فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِ صوَرَةِ مَا شَاءَ رَكَبَكَ (
) ([20].
إن المؤمن يري يد الله المبدعة في كل ما يشاهده في هذا الكون البديع ،و يبصر جمال الله في جمال ما خلق و صور ، يري فيه ( صنُعَ اللَهِ الَذِي أَتُقَنَ كلَ شَيُءٍ ج ) [21]، ( الَذِي أَحُسَنَ كلَ شَيُءٍ خَلَقَه, ) ([22])
و بهذا يحب المؤمن الجمال في كل مظاهر الوجود من حوله ؛ لأنه أثر جمال الله جل و علا .
و هو يحب الجمال كذلك ؛ لأن «الجميل» اسم من أسمائه تعالي الحسنى و صفة من صفاته العلا .
و هو يحب الجمال أيضاً ، لأن ربه فهو جميل يحب الجمال .
* * *
إن الله جميل يحب الجمال :
و هذا ما علمه النبي (صلي الله عليه و آل وسلم ) لأصحابه ، وقد توهم بعضهم أن الولع بالجمال ينافي الإيمان ، أو يدخل صاحبه في دائرة الكبر المقيت عند الله ئ عند الناس .
روي ابن مسعود أن رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) قال : «لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقالَ ذَرَة ن كِبُر » ، فقال رجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ، و نعله حسنة . قال : «إن الله جميل يحب الجمال ، الكِبُر بطر الحق و غمط الناس» ([23]) .
* * *
القرآن معجزة جمالية :
و القرآن الكريم آية الإسلام الكبرى ، و معجزة
الرسول العظمي : يعتبر معجزة جمالية ، إضافة إلى أنه معجزة عقيلة ، فقد أعجز العرب بجمال بيانه ، وروعة نظمه و أسلوبه ، و تفرد لحنه و موسيقاه ، حتى سماه بعضهم : سحراً .
و قد بين علماء البلاغة و أباء العربية وجه الإعجاز البياني أو الجمالي في هذا الكتاب ، منذ عبد القاهر إلى الرافعي وسيد قطب و بنت الشاطي ء و غير هم في عصرنا .
و من المطلوب في تلاوة القرآن أن ينضم جمال الصوت و الأداء إلي جمال البيان و النظم . و لهذا قال تعالي : ( وَرَتِلِ الُقرُءَانَ تَرُتيَلًا (4) ([24])
و قال
الرسول (صلي الله عليه و آل و سلم ) : « زينوا القرآن بأصواتكم »([25]) ، و في لفظ آخر : « فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً» ([26]) .
و قال : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن » ([27]) ، ولكن التغني المطلوب لا يعني التلاعب أو التحريف .
و قال عليه الصلاة و السلام لأبي موسى :«لو رأيتني و أنا أستمع قراءتك البارحة ! لقد أوتيت مزاراً من مزامير آل داود » !
فقال أبو موسى : لو علمت ذلك لحبرته لك تحبيراً » ! ! ([28]) يعني : زدت في تجويده إتقانه و تحسين الصوت به .
و قال : «ما أذن الله لشيء ، ا أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن ، يجهر به » ([29]) .
و لقد سمعت شيخنا الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله يحكي لنا عن موقف له المجلس الأعلى الإذاعة ، و قد كان عضواً فيه : أنهم أرادوا أن يجعلوا وقت قراءة القرآن في الافتتاح والختام و بعض الفترات محسوباً على نصيب الدين فقط . إنه استمتاع أيضاً بالفن والجمال المودع في القرآن ، و المؤدي بأحسن الأصوات .
وهذا صحيح .. فالقرآن دين و علم وأدب و فن معاً . فهو يغذي الروح ، و يقنع العقل ، ويوقظ ، الضمير ، ويمتع العاطفة ، و يصقل اللسان .
* * *
يتبع